فصل: المسألة الثانية: هذه المحاجة كانت مع من؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال البيضاوي:

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} أتجادلوننا.
{فِي الله} في شأنه واصطفائه نبيًا من العرب دونكم، روي أن أهل الكتاب قالوا: الأنبياء كلهم منا، لو كنت نبيًا لكنت منا. فنزلت: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} لا اختصاص له بقوم دون قوم، يصيب برحمته من يشاء من عباده.
{وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا، كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحلونه إفحامًا وتبكيتًا، فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله على من يشاء والكل فيه سواء، وإما إفاضة حق على المستعدين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص. وكما أن لكم أعمالًا ربما يعتبرها الله في إعطائها، فلنا أيضًا أعمال.
{وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} موحدون نخصه بالإيمان والطاعة دونكم. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن في الآية مسائل:

.المسألة الأولى: ذكر الخلاف في المحاجَّة:

اختلفوا في تلك المحاجة وذكروا وجوهًا:
أحدها: أن ذلك كان قولهم أنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم والمعنى: أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسولا من العرب لا منكم وتقولون: لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم، وترونكم أحق بالنبوة منا.
وثانيها: قولهم: نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان.
وثالثها: قولهم؛ {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} وقولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقولهم: {كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} [البقرة: 135] عن الحسن.
ورابعها: {أَتُحَاجُّونَنَا في اللَّهِ} أي: أتحاجوننا في دين الله.

.المسألة الثانية: هذه المحاجة كانت مع من؟

ذكروا فيه وجوهًا:
أحدها: أنه خطاب لليهود والنصارى.
وثانيها: أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] والعرب كانوا مقرين بالخالق.
وثالثها: أنه خطاب مع الكل، والقول الأول أليق بنظم الآية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والاستفهام للتعجب والتوبيخ، ومعنى المحاجة في الله الجدال في شئونه بدلالة الاقتضاء إذ لا محاجة في الذات بما هي ذات والمراد الشأن الذي حمل أهل الكتاب على المحاجة مع المؤمنين فيه وهو ما تضمنته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أن الله نسخ شريعة اليهود والنصارى وأنه فضله وفضل أمته، ومحاجتهم راجعة إلى الحسد واعتقاد اختصاصهم بفضل الله تعالى وكرامته. فلذلك كان لقوله: {وهو ربنا وربكم} موقع في تأييد الإنكار أي بلغت بكم الوقاحة إلى أن تحاجونا في إبطال دعوة الإسلام بلا دليل سوى زعمكم أن الله اختصكم بالفضيلة مع أن الله ربنا كما هو ربكم فلماذا لا يمن علينا بما مَنَّ به عليكم؟.
فجملة {وهو ربنا} حالية أي كيف تحاجوننا في هاته الحالة المعروفة التي لا تقبل الشك، وبهذه الجملة حصل بيان لموضوع المحاجة، وكذلك جملة {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم} وهي عطف على الحال ارتقاء في إبطال مجادلتهم بعد بيان أن المربوبية تؤهل لإنعامه كما أهلتهم، ارتقى فجعل مرجع رضى الله تعالى على عباده أعمالهم فإذا كان قد أكرمكم لأجل الأعمال الصالحة فلعله أكرمنا لأجل صالحات أعمالنا فتعالوا فانظروا أعمالكم وانظروا أعمالنا تجدوا حالنا أقرب إلى الصلاح منكم. اهـ.
قوله تعالى: {ونحن له مخلصون}.
{ونحن له مخلصون} أي مخلصوا الطاعة والعبادة له وفيه توبيخ لليهود والنصارى والمعنى وأنتم به مشركون. والإخلاص أن يخلص العبد دينه، وعمله لله تعالى فلا يشرك في دينه ولا يرائي بعمله، قال الفضيل بن عياض: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله منهما وهذه الآية منسوخة بآية السيف. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.فائدة في تقديم المجرور:

وتقديم المجرور في {لنا أعمالنا} للاختصاص أي لنا أعمالنا لا أعمالكم فلا تحاجونا في أنكم أفضل منا، وعطف {ولكم أعمالكم} احتراس لدفع توهم أن يكون المسلمون مشاركين للمخاطبين في أعمالهم وأن لنا أعمالنا يفيد اختصاص المتكلمين بما عملوا مع الاشتراك في أعمال الآخرين وهو نظير عطف قوله تعالى: {ولي دين} على قوله: {لكم دينكم} [الكافرون: 6].
وهذا كله من الكلام المصنف مثل قوله تعالى: {وإنا أوْ إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سبأ: 24].
وجملة {نحن له مخلصون} عطف آخر على جملة الحال وهي ارتقاء ثالث لإظهار أن المسلمين أحق بإفاضة الخير فإنهم وإن اشتركوا مع الآخرين في المربوبية وفي الصلاحية لصدور الأعمال الصالحة فالمسلمون قد أخلصوا دينهم لله ومخالفوهم قد خلطوا عبادة الله بعبادة غيره، أي فلماذا لا نكون نحن أقرب إلى رضى الله منكم إليه؟.
والجملة الاسمية مفيدة الدوام على الإخلاص كما تقدم في قوله: {ونحن له مسلمون} [البقرة: 136]. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}.
تحديد الأمر بقل إيقاظ لمهمة التكليف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والله سبحانه وتعالى حين يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام- قل- كان يكفي أن يقول ما يريده سبحانه.. فأنت إذا قلت لابنك اذهب إلي أخيك وقل له أبوك يأمرك بكذا فيذهب الولد ويقول هذا الكلام دون أن يقول كلمة قل.. ولكن خطاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة قل تلفتنا إلي أن هذا الأمر ليس من عنده ولكنه من عند الله سبحانه، ومهمة الرسول هي الإبلاغ. إن تكرار كلمة {قل} في الآيات هي نسبة الكلام المقول إلي عظمة قائله الأول وهو الله تبارك وتعالى.. فالكلام ليس من عند رسول الله ولكن قائله هو الله جل جلاله.
قوله تعالى: {قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم}.. المحاجة معناها حوار بالحجة، كل من المتحاورين يأتي بالحجة التي تؤيد رأيه أو وجهة نظره.. وإذا قرأت قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ} من الآية 258 سورة البقرة.
أي قال كل منهما حجته.. ولابد أن يكونا خصمين كل منهما يعاند رأيه الرأي الآخر وكل يحاول أن يأتي بالحجة التي تثبت صدق كلامه فيرد عليه خصمه بالحجة التي تهدم هذا الكلام وهكذا. قوله تعالى: {أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم}.. ومادام الله رب الجميع كان من المنطق أن نلتقي لأنه ربي وربكم حظنا منه سواء.. ولكن مادامت قد قامت الحجة بيننا فأحدنا على باطل.. واقرأ قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)} سورة الشورى.
والمحاجة لا يمكن أن تقوم بين حق وحق وإنما تقوم بين حق وباطل وبين باطل وباطل.. لأن هناك حقا واحدا لكن هناك مائة طريق إلي الباطل.. فمادامت المحاجة قد قامت بيننا وبينكم ونحن على حق فلابد أنكم على باطل.. وليحسم الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة ويمنع الجدل والجدال قال سبحانه: {ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون}.. أي لا نريد جدلا لأن الجدل لن يفيد شيئا.. نحن لنا أعمالنا وأنتم لكم أعمالكم وكل عمل سيجازي صاحبه عليه بمدى إخلاصه لله.. ونحن أخلصنا العبادة لله وحدة وأنتم اتجهتم بعبادتكم إلي ما تحبه أهواؤكم.
إن الله سبحانه وتعالى الذي هو ربنا وربكم لا يفضل أحدا على أحد إلا بالعمل الصالح المخلص لوجه الله.. ولذلك فنحن نضع الإخلاص أولا وقد يكون العمل واحدا أمام الناس.. هذا يأخذ به ثوابا وذلك يأخذ به وزرا وعذابا فالمهم هو أن يكون العمل خالصا لله. قد يقول إنسان إن الإخلاص في العمل والعمل مكانه القلب.. ومادام الإنسان لا يؤذي أحدا ولا يفعل منكرا فليس من الضروري أن يصلي مادامت النية خالصة.. نقول إن المسألة ليست نيات فقط ولكنها أعمال ونيات.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات».
فلابد من عمل بعد النية.. لأن النية تنتفع بها وحدك والعمل ويعود على الناس.. فإذا كان في نيتك أن تتصدق وتصدقت انتفع الفقراء بمالك.. ولكن إذا لم يكن في نيتك فعل الخير وفعلته لتحصل على سمعة أو لترضي بشرا انتفع الفقراء بمالك ولن تنتفع أنت بثواب هذا المال.. والله سبحانه وتعالى يريد أن يقترن عملك بنية الإخلاص لله.. والعمل حركة في الحياة. والنية هي التي تعطي الثواب لصاحبه أو تمنع عنه الثواب ولذلك يقول الله جل جلاله: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)} سورة البقرة.
فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نتصدق.. والفقير سينتفع بالصدقة سواء كانت نيتك أن يقال عنك رجل الخير المتصدق.. أو أن يقال عنك رجل البر والتقوى أو أن تخفي صدقتك.. فالعمل يفعل فينتفع به الناس سواء أردت أو لم ترد. أنت إذا قررت أن تبني عمارة، النية هنا هي التملك ولكن انتفع ألوف الناس بهذا العمل ابتداء من الذي باع لك قطعة الأرض والذي أعد لك الرسم الهندسي وعمال الحفر والذي وضع الأساس ومن قام بالبناء وغيرهم وغيرهم.. هؤلاء انتفعوا من عملك برزق لهم.. سواء أكان في بالك الله أم لم يكن في بالك الله فقد انتفعوا.
إذن فكل عمل فيه نفع للناس أردت أو لم ترد.. ولكن الله لا يجزي على الأعمال بإطلاقها وإنما يجزي على النيات بإخلاصها.. فإن كان عملك خالصا لله جزاك الله عليه.. وإن كان عملك لهدف آخر فلا جزاء لك عند الله لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك. إن الذين يتعجبون من أن إنسانا كافرا قدم كشفًا هامًا للبشرية ولكنه لم يكن مؤمنا بالله.. يتعجبون أيعذب في النار؟ نقول نعم لأنه عمل وليس في قلبه الله.. ولذلك يجازي في الحياة الدنيا، فتقام له التماثيل ويطلق اسمه على الميادين ويخلد اسمه في الدنيا التي عمل من أجلها.. ولكن مادام ليس في نيته الله فلا جزاء له عند الله. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {وقالوا كونوا هودا أو نصارى} فيه إيجاز بالحذف أي قال اليهود كونوا يهودًا، وقال النصارى كونوا نصارى، وليس المعنى أن الفريقين قالوا ذلك، لأن كل فريق يعد دين الآخر باطلا.
2- {فسيكفيكهم الله} فيه إيجاز ظاهر أي يكفيك الله شرهم، وتصدير الفعل بالسين دون سوف، مشعر بأن ظهوره عليهم واقع في زمن قريب.
3- {السميع العليم} من صيغ المبالغة ومعناه الذين أحاط سمعه وعلمه بجميع الأشياء.
4- {صبغة الله} سمي الدين صبغة بطريق الاستعارة حيث تظهر سمته على المؤمن كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
5- {أتجادلوننا في الله} الاستفهام وارد على جهة التوبيخ والتقريع. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}.
الاستفهام في قوله: {أَتُحَاجُّونَنَا} للإنكار والتوبيخ.
والجمهور: {أتحاجوننا} بنونين الأولى للرفع، والثانية نون ن.
وقرأ زيد والحسن والأعمش رحمهم الله بالإدغام.
وأجاز بعضهم حذف النون الأولى.
فأما قراءة الجمهور فواضحة.
وأما قراءة الإدغام فلاجتماع مثلين، وسوغ الإدغام وجود حرف المد وللين قبله القائم مقام الحركة.
وأما من حذف فبالحمل على نون الوقاية كقراءة: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]؛ وقوله: الوافر:
تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكًا ** يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إذَا فَلَيْنِي

يريد فَليْنَنِي، وهذه الآية مثل قوله: {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64]، فإنه قرئت بالأوجه الثلاثة: الفَكِّ والإدغام والحذف، ولكن في المتواتر.
وها لم يُقْرأ في المشهور كما تقدَّم إلا بالفكّ.
ومَحَلُّ هذه الجملة النصب بالقول قبلها.
والضمير في {قل} يَحْتَمِلُ أن يكون للنبي عليه الصلاة والسَّلام أو لكلّ من يصلح للخطاب، والضمير المرفوع في: {أتحاجُّوننا} اليهود والنصارى، أو لمشركي العرب أو للكلّ.
والمحاجّة مفالعة من حَجَّة يَحُجُّهُ.
قوله: {وَهُوَ رَبُّنَا} مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال، وكذا ما عطف عليه من قوله: {وَلَنَا أعمالنا} ولابد من حذف مضاف أي: جزاء أعمالنا، ولكم جزاء أعمالكم. اهـ. باختصار.